"... في الساحات و الحدائق العمومية الصغيرة حيث تتساقط أوراق الشجر ميتة تنتصب تماثيل تذكارية
داكنة.
تغطي وجوه التماثيل طبقة سميـــكة من الأوساخ ، والأعين التي كانت ذات يوم تتقد بحب وطنها امتلأت بغبار المدينة .لقد تاه هؤلاء الناس البرونزيون الفاقدون للحياة والذين يعانون الوحدة وسط نسيج من بنايات متعددة الطوابق ، ليسوا أكبر من أقزام في الظل الداكن للجدران العالية وسط الركام الجنوني حولهم،أنصاف عميان ،يشاهدون بحزن وبقلوب متألمة هذا النشاط المحموم الصاخب للناس عند أقدامهم. تمر وجوه كالحة صغيرة مسرعة بمحاذاة النصب التذكارية ولا يلقي أي واحد منها ولو نظرة على وجه البطل.فوحوش رأس المال محت من ذاكرة الناس معنى هؤلاء الذين صنعوا الحرية.
يبدو أن كل واحد من هؤلاء الرجال البرونزيين استولت عليه نفس الفكرة الحزينة: " أهذه هي الحياة التي كنت أسعى إلى صنعها ؟".
الحياة المحمومة حولهم تغلي مثل حساء في قدر فوق موقد مشتعل.و هؤلاء الناس الصغار يندفعون مسرعين ويغيبون في جوف المبنى مثل حبات طعام في المرق، مثل شظايا خشبية في البحر. تبتلعهم المدينة الواحد تلو الآخر في جوفها الذي لا يشبع.
بعض هؤلاء الأبطال البرونزيين أسدل يديه و البعض الآخر رفعهما ومدهما فوق رؤوس الناس منبها: " قفوا ! هذه ليست حياة،هذا جنون...".
كلهم زائد تافه في ركام حياة الشارع، كلهم خارج المكان في العواء المتوحش للجشع ،في السجن الضيق لهذا الوهم الكئيب المصنوع من الحجارة و الزجاج و الحديد.
،سينزلون كلهم،في ليلة من الليالي ،من فوق منصاتهم وسيسيرون بخطوات خفيفة عبر الشوارع آخذين عزلتهم ووحشتهم بعيدا عن هذه المدينة إلى الحقول، حيث يشع القمر و يوجد الهواء المنعش والطمأنينة و السلام الهادئ.فعندما يكون الإنسان قد كافح طيلة حياته من أجل خير بلاده، فإنه - بدون شك- فعل ذلك و هو متيقن أنه ،بعد رحيله، سيترك ،بالتأكيد ،لينعم بالسلام...".
المصدر:
Maxim Gorky, The city of the yellow devil. Progress publishers. Moscow.
Second printing 1977.
: كاتب مدونة تاج.ترجمة
تصوير: كاتب مدونة تاج.